Take a fresh look at your lifestyle.

يسري مصطفى يكتب: وداعًا لمن علّمنا بحب.. وآسفي على مكالمةٍ لم تُرَد

163

بقلم: يسري مصطفى

كنت أظن أن لدي متسعًا من الوقت، وكنت أقول لنفسي: سأرد عليه لاحقًا… لكن “لاحقًا” لم تأتِ.

واليوم، جاءني الخبر الصادم: وفاة الكاتب الصحفي الكبير محمد الدسوقي، مدير تحرير الأهرام الأسبق، إثر أزمة صحية مفاجئة، رحل في صمت، كما كان دائمًا، رقيقًا في حضوره وغيابه، وبرحيله، شعرت أن جزءًا من ذاكرتي الصحفية انسحب بهدوء، وترك خلفه فراغًا لا يُملأ.”

لم يكن أستاذنا الدسوقي مجرد صحفيٍّ عاديٍّ، بل كان رحمه الله معلمًا حقيقيًا، تنحني له القلوب قبل الأقلام، فقد شرفت بأن أكون واحدًا من الذين نهلوا من علمه، وجلست أمامه طالبًا في قاعات التدريب بنقابة الصحفيين، حيث كان مقعده في مركز التدريب بالدور السابع شاهدًا على سنوات من العطاء والجهد.

لم يكن يلقي الدروس فقط، بل كان يغرس القيم، ويشعل الشغف في العيون، ويؤمن أن كل شاب يحمل داخله مشروع صحفي عظيم.

وفي الدور الرابع، حيث يجتمع الصحفيون من كل جيل، كنت تجده دائمًا هناك؛ يجلس بين محبيه، يضحك، ينصح، يحاور، يُشعرك دومًا بأنه الأخ الأكبر أو الأب الذي يريد لك الخير. لا يرفع صوته، بل يرفع من حوله. يُعلّم دون أن يُشعر أحدًا بأنه يتعلم، ويُوجّه دون أن يُحرج، ويمنح من خبرته ما يكفي ليضيء دربك دون أن ينتظر شكرًا أو عرفانًا.

كانت نقابة الصحفيين بيته الحقيقي، وملاذه، وامتداد روحه. لم تكن مجرّد مقر مهني، بل كانت بالنسبة له بيت العائلة الكبيرة التي لم يتوقف عن خدمتها.

ولن تجد صحفيًا – سواء من أبناء الأهرام أو من خارجها – ممن عايشوا الأستاذ محمد الدسوقي، إلا وله معه قصة تُروى، أو موقف محفور في الذاكرة، ترك فيه أثرًا لا يُنسى، بحضوره الإنساني قبل المهني.

وكان، فوق ذلك كله، من شيوخ “الديسك” الصحفي المخضرمين؛ أولئك الذين تتعلّم من نظراتهم قبل كلماتهم.

كان يكفي أن تمرّ عينه على خبر أو تقرير، حتى يكتشف مواطن الخلل، ويعيد تشكيله باحتراف نادر. لم يكن مجرد محرر، بل بنّاء نصوص، يعرف متى يرفع الكلمة، ومتى يُسقطها، ومتى يترك فراغًا يقول أكثر مما تقوله الجمل.

لكن ما يؤلمني أكثر، هو تلك المكالمة الأخيرة. اتصل بي قبل أيام، ولم أنتبه. قلت: سأكلمه لاحقًا، ثم سرقتني الحياة، كعادتها. واليوم، لم يعد هناك لاحقًا.

“ربما كان يريد فقط أن يقول: كيفك يا يسري؟ أو يسألني عن بناتي كعادته، وربما أراد أن يوصيني بشيء، أو لعله كان يودّعني… لا أدري، ولن أدري، فقد غاب، وذهب معه الجواب.”

رحيله موجع، ليس لأنه ترك منصبًا أو عمودًا صحفيًا، بل لأنه ترك فراغًا في قلوبنا، نحن الذين تعلّمنا على يديه، وتأثرنا بصدقه، واستمددنا من روحه حب المهنة.

لكن عزاؤنا فيه، أنه وإن رحل بجسده، فإن ظله باقٍ في كل غرفة عمل فيها، وكل ورشة درّب فيها، وكل نصٍّ مرّ من بين يديه فأصبح أجمل.

رحمك الله يا أستاذ محمد، وجعل ما علمته لنا نورًا لك في قبرك، وسلامًا في آخرتك. سامحني إن قصّرت، وسأحمل صوتك في قلبي، ما حييت.

الكاتب الراحل محمد الدسوقي خلال إحدى الدورات بنقابة الصحفيين

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.